أضواء على تاريخ بلوشستان.. بين التطلعات القومية و الأزمات الإقليمية
بقلم: د. مجيد البلوشي *
يسألني الكثير من الناس، كوني بلوشيا، - سواء أكان ذلك عن طريق الرسائل التي أتسلمها من بريدي الإلكتروني، أو بصورة مباشرة وجهاً لوجه، كما هو الحال مع طلبتي في جامعة دِلمون للعلوم والتكنولوجيا، مثلاً - عن ماهية البلوش وأصلهم، وإذا ما كانوا يشكّلون قومية مستقلة لها كيانها الخاص، وثقافتها وعاداتها وتقاليدها الخاصة بها، أم أنهم مجرّد طائفة أو مجموعة لا أصل لها ولا فصل، مشتتة هنا وهناك في دول العالم.. لذا قررتُ أن أكتب شيئاً عن قوميتي هذه التي أفتخر بها كثيراً، وذلك بالرغم من كوني أمميا اشتراكيا قبل أي شيء آخر، لذا فإنني أنبذ القومية الشوفينية chauvinism بصورة مطلقة. وفي هذا الصدد يقول فلاديمير إليتش لينين: "... لا يمكن أن يكون المرء "قوميا"... إلا إذا كان سياسيا اشتراكيا، أي إلا إذا اعترف بحق الأمم المضطَهَدة في التحرّر، في الانفصال عن الدولة الكبرى التي تضطهدها" (1)
علماً بأن القومية البلوشية هي من أكبر القوميات المعرضة للاضطهاد والقمع في وقتنا الحاضر.ونحن في مقالنا القصير هذا لسنا بصدد سرد تاريخ البلوش وثقافتهم، أو شرح وضعهم الاقتصادي - الاجتماعي والسياسي... فهناك الكثير من الكتب والمقالات التي تناولت هذه الموضوعات بصورة موسّعة ومفصّلة، سواء أكانت باللغة العربية أم اللغة الإنجليزية أم اللغة البلوشية أم غيرها، وإنما نحاول هنا أن نعطي صورة عامة ومبسّطة عن البلوش حسب وجهة نظرنا، وخاصةً عن هؤلاء البلوش الموجودين في الجزء الأكبر من بلوشستان الخاضعة لباكستان، حيث ان بلوشستان مجزّأة - بل تمّت تجزئتها - إلى ثلاثة أجزاء محتلة هي بالتسلسل من حيث المساحة: بلوشستان الشرقية (في باكستان، وتشكّل 48% من مساحتها)، وبلوشستان الغربية (في إيران)، وبلوشستان الشمالية (في أفغانستان).
وهذه الأجزاء الثلاثة مجتمعةً تُعرف بـ "بلوشستان العُظمى" Greater Balochistan التي ينادي بها معظم البلوش الذين يطالبون باستقلالها واستعادة مجدها.فالبلوش قوم كانت لهم دولة خاصة مستقلة تُسمّى "بلوخستان" أو "بلوشستان" Balochistan منذ آلاف السنين، وكانت هذه الدولة تحدّها الهند وبلاد السند شرقاً، وأفغانستان شمالاً، وإيران غرباً، وبحر العرب جنوباً. وأغلب أراضيها، كانت ومازالت، صحراوية وتكثر بها التلال والجبال، بجانب عدد محدود من الأنهار والوديان.وتتضارب الآراء حول زمن فتح بلوشستان من قِبل المسلمين، فهناك مَن يقول إن "الإسلام دخل أرض البلوش على يد الصحابي الشهير العلاء بن الحضرمي.. الذي تولى إمارة البحرين أيام الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصاحبيه من بعده أبي بكر وعمر بن الخطاب..." (2)، ومَن يقول إن الإسلام دخل بلوشستان "في عام 24 هجرية حيث أرسل الخليفة عمر بن الخطاب كلا من سهيل بن عدي وعبدالله بن عتبان لفتح بلوشستان وكرمان إلى تلك المنطقة، فأسلم جمع كثير، وقبلت البقية دفع الجزية" (3).
وكون بلوشستان بلدا متخلفا، صناعيا واقتصاديا، ويسودها الفقر والجهل، فقد أدّى ذلك إلى رحيل الكثيرين من أهلها إلى الدول المجاورة، ومنها الدول الخليجية، وخاصة سلطنة عُمان، ومنها إلى الدُول الافريقية كتنزانيا (زنجبار سابقاً) وكينيا وغيرهما، طلباً للعمل والرزق ومنذ مئات السنين، وذلك بالرغم من غنى بلادهم من حيث الموارد الطبيعية المدفونة تحت الأرض كالنفط والغاز الطبيعي والمعادن المختلفة التي لمْ يتم الانتفاع منها بصورة كاملة حتى الآن، وذلك لعدم تصنيع البلاد إذْ ان التصنيع يؤدّي إلى التنمية، والتنمية تعني الرُقيّ والازدهار، وهذا ما لم تُردْه - ولا تريده - لا حكومة البنجاب، ولا حكومة إيران، وهما الحكومتان المسيطرتان على أراضي بلوشستان، فانطبق عليها القول "ما فوق الأرض فقرٌ، وما تحتها غنى".
ولتأكيد ما نقول نقتبس هنا ما تقوله مجلة "المجتمع" تحت العنوان "تحالف أمريكي - هندي لتفكيك باكستان وإعلان جمهورية بلوشستان قبل عام 2015م": "... إن الثروات الاقتصادية الهائلة في الإقليم (إقليم بلوشستان) يسيل لها لعاب القوى الدولية التي دفعت أموالاً ضخمة لتحقيق هذا المشروع الانفصالي (انفصال بلوشستان) عن الدول الخاضعة لها، حيث يُعتبر إقليم بلوشستان من أغنى المناطق في العالم بالموارد الطبيعية. وكانت مؤسسة ألمانية قامت بدراسةٍ في إقليم بلوشستان ذكرت أن إقليم بلوشستان يملك احتياطيا من الغاز قيمته 800 بليون دولار، واحتياطيا من الأحجار الكريمة من الأنواع النادرة في العالم بما يعادل 100 بليون دولار إلى جانب الاحتياطي الكبير من الذهب والفضة والنحاس واليورانيوم تُقدّرقيمته ببلايين الدولارات..." (4).
أما النظام السياسي السائد في بلوشستان فكان هو النظام القبلي-العشائري. فقد كان رؤساء القبائل المختلفة هم الذين يحكمون البلاد، وكانوا يقاومون أي تدخل أجنبي في شؤون بلادهم، بما فيه التدخل البرتغالي والتدخل البريطاني في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولما قام الهنود بالنضال من أجل تحرير بلادهم من الاستعمار البريطاني في النصف الأول من القرن العشرين بقيادة المناضل البطل والزعيم الكبير مهاتما غاندي، قررت بريطانيا تقسيم الهند، بهدف إضعافها، إلى دولتين هما: جمهورية الهند، وهي الدولة التي اختارت فيما بعد أن تكون دولة ديمقراطية علمانية بعد الاستقلال، ودولة خاصة بالمسلمين، وذلك باستخدام الدين - والدين يخدم السياسة هنا - فقامت بريطانيا بتحريض المسلمين على المطالبة بدولة خاصة لهم بحجة أنهم كانوا يشكّلون الأكثرية الكبرى من حيث عدد السكان بعد الهندوس. فأذعن المسلمون، وخاصةً الطبقة البرجوازية منهم، بقيادة محمد علي جناح وزملائه، لأوامر الإنجليز واقتراحهم، فتم إعلان إقامة جمهورية باكستان الإسلامية في 14 أغسطس عام 1947م، وذلك باقتطاع جزأين من الهند، وهما الجزء الشمالي الغربي (إقليم البنجاب الباكستاني حاليا) والجزء الشمالي الشرقي (باكستان الشرقية سابقاً، ودولة بنغلاديش المستقلة حاليا)، بالإضافة إلى مقاطعة الحدود الشمالية الغربية المسماة حاليا "إقليم سرحـد" (أي منطقة الحدود) ومنطقة السند (بلاد السند) والجزء الأكبر من بلوشستان.
علماً بأن الجزء الأصغر من بلوشستان قد تم إلحاقه بإيران قبل ذلك بأكثر من عشرين سنة، أي في عام 1928م حيث تم جعله جزءاً من ولاية كرمان الإيرانية.بمعنى آخر أن دولة باكستان المقامة باسم الدين الإسلامي، تتكون حاليا من أربع قوميات رئيسية - بعد استقلال إقليم البنغال بقيادة المناضل الوطني مجيب الرحمن عام 1971م، وإقامة دولة "بنغلاديش" المستقلة - وهذه القوميات الأربع تختلف اختلافا كُليا من حيث اللغة والثقافة والعادات والتقاليد، ممّا جعل من الصعوبة بمكان انصهار وتوحّد هذه القوميات المختلفة في أُمـّة واحدة باسم الدين، وهي قوام الأمة لدولة باكستان المسلمة، وهذه القوميات موزعة في الأقاليم الأربعة التالية: إقليم البنجاب، وإقليم السند، وإقليم "سرحد"، وإقليم بلوشستان، وهذا الإقليم الأخير هو أكبرها مساحة وأقلها سُكاناً (زهاء 10 ملايين نسمة)، وأغناها ثروةً، ولكنه - وهنا مربط الفرس - مستغلٌ استغلالاً بشعاً من قِبل أهل البنجاب الذين يسيطرون عليه وعلى الأقاليم الأخرى.
والحق أنه متى ما قامت أي دولة باسم الدين أو المذهب - أيا كان هذا الدين أو المذهب - فقولوا لها "وداعـاً" لأن مآلها التفكّك والزوال عاجلاً أو آجلاً وخاصةً إذا كانت هذه الدولة تضم عدة قوميات تختلف عن بعضها بعضا اختلافا جذريا، ولا يربطها أيّ رابط غير الدين. وهذا ما حدث لباكستان الشرقية التي انفصلت عن جمهورية باكستان الإسلامية، وأصبحت "جمهورية بنغلاديش" المستقلة عام 1971م. وهذا ما نراه حاليا في باكستان نفسها حيث تزداد الاضطرابات القومية والعرقية، بل تشتدّ حركات التحرر من قبضة البنجاب، مطالبةً بالحرية والاستقلال، وذلك في جميع الأقاليم المضطهَدة من قِبل البنجاب، وعلى رأسها إقليم بلوشستان حيث وصلت الأمور إلى حد لم تشهده باكستان قبلاً، وهو قيام العديد من المنظمات السياسية التي تتراوح مطالبها بين الحكم الذاتي السياسي، والحصول على جزء أكبر من عوائد الموارد الطبيعية الوفيرة في أرض بلوشستان، وبين الانفصال عن باكستان انفصالا تاما نهائيا لا رجعة فيه، وإقامة دولة بلوشستان المستقلة الحُرّة.
والمطالبة الأخيرة هذه هي السائدة حاليا، وهي التي تنادي بها المنظمات القائمة بالكفاح المسلح ضد الجيش الباكستاني الطاغي المنتشر في جميع أرجاء البلاد. وخير دليل على ذلك هو قافلة الشهداء البلوش الذين ازدادوا في السنوات الأخيرة، منهم، مثلاً، الشهيد نواب أكبر بُـكـتي، والشهيد بالاج مرّي، والشهداء غلام محمد بلوج وشير محمد بلوج ولالا مُنير بلوج... ليس ذلك فحسب بل وصلت المسألة إلى عصيان جماهيري شعبي عام نجمت عنه ظواهر لمْ تتوقعها حكومة البنجاب ذات الجيش ذي البطش والهيمنة، ومنها، مثلاً، إزالة عَلم باكستان من على المباني الحكومية والمدارس وغيرهما، واستبدال عَلم بلوشستان الحُرة به، ليس من قِبل الثوار ومؤيديهم فقط بل من قِبل الناس العاديين وطلبة المدارس، ناهيكم عن الأشعار والأغاني والأناشيد الوطنية البلوشية التي بدأت تنتشر أكثر فأكثر.
والسؤال - أو التساؤل - الكبير الذي يفرض نفسه هنا هو: لماذا تم إيجاد دولتين "مصطنعتين" وباسم الدين في فترتين متقاربتين جدا، لا تتعدّيان سنة واحدة، وهما: دولة باكستان التي أقامتها بريطانيا باسم الدين الإسلامي، في 14 أغسطس عام 1947م، ودولة إسرائيل التي أقامتها بريطانيا نفسها أيضاً باسم الدين اليهودي، في 14 مايو عام 1948م، أي بفارق زمني قدره عشرة أشهر لا أكثر؟ وكلتا الدولتين الجديدتين المصطنعتين كانت تأتمر بأوامر بريطانيا عند إقامتهما، أما بعد ذلك، فإنهما ظلتا تأتمران بأوامر أمريكا، وذلك بعد أفول شمس بريطانيا، وتراجعها عن الهيمنة العالمية تاريخيا وسطوع شمس أمريكا وبروزها، وخاصةً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، مع الفارق الكبير بين الدولتين الجديدتين المصطنعتين إسرائيل وباكستان، فإسرائيل غالباً ما تُملي على أمريكا ما تريده هي، أي إسرائيل، بينما أمريكا هي التي تُملي على باكستان ما تريده هي، أي أمريكا. فإيجاد جماعة طالبان المسلمة، مثلاً، قامت به باكستان بأمرٍ من "وليّة" أمرها أمريكا، وبمساعدة "البترودولارات"، وباسم "الجهاد الإسلامي"، لمحاربة السوفيت "الكُفار" القائمين - آنذاك - بإخراج أفغانستان من ظلمات الجهل والفقر والتخلّف إلى نور الاشتراكية والحرية والمساواة.
كما أن باكستان المسلمة هي نفسها قامت، وتقوم حاليا، وبأمرٍ من أمريكا أيضاً، بمحاربة ربيبتها جماعة طالبان نفسها - بعد أن انقلب السحر على الساحر، أي بعد أن أدرك المجاهدون المسلمون "الطالبان" أن أمريكا هي "عدوّة" المسلمين الفعلية وليس غيرها، باعتبارها المدافعة الأساسية عن إسرائيل، وهذه الاخيرة هي العدوّ اللدود للعرب والمسلمين.ولا نناقش هنا مسألة إذا ما كان البلوش ينحدرون من أصول عربية او هندية أو فارسية أو غيرها، أم أنهم يشكلون قومية مستقلة لها كيانها الخاص، وثقافتها وعاداتها وتقاليدها الخاصة بها، شأنهم في ذلك شأن القوميات الأخرى، ومنها القومية العربية، والقومية الهندية، والقومية الفارسية، وغيرها، فهذه مسألة تحتاج إلى الدراسة والبحث بصورة موضوعية بعيدة عن العواطف والرغبات.
مركز بلوشستان للدراسات البلوشية
المصدر : صحيفة أخبار الخليج البحرينية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق